مقالات

رأي إعلامي أ/شاذلي عبدالسلام محمد 🖋️ البتاعات

🔹في قلب كل وطن حي هناك معارك تخاض في الخفاء أخطر من الحروب التي تبث في نشرات الأخبار ، معارك لا تدار بالدبابات بل بالضمائر و لا تسيل فيها دماء ولكن تنزف فيها القيم فنحن نعيش زمن “البتاعات” حيث لا يمر شيء بسلاسة ما لم تطعم الطريق بما يسكت جوع الفاسدين إنه واقع مرير يتخفى خلف صمت الشوارع وابتسامات رجال المرور وملامح الناس التي أدمنت الانحناء……

🔹في صباح خانق خرجت من منزلي متجها إلى عملي بعد انقضاء عطلة عيد الفطر محملا بأفكار عن الزمن وضياعه وعن الحرب التي مزقت خارطة الوطن وعن الطرقات التي لا تحملك بل تبتلعك ركبت “هايس” منهكة ووجدت نفسي بجوار سائق يبدو من ملامحه أنه سائق قديم ليس فقط على المقود بل في دهاليز الواقع السوداني أيضا و كان حديثنا تلقائيا كما هو حال السودانيين ما أن يتشاركوا مقعدا حتى يتشاركون الهم فتحدثنا عن الحرب والناس والجوع والانفلات… لكن ما حدث بعد ذلك خطفني من حالة المراقبة إلى لحظة اكتشاف عميقة…..

🔹عزيزي القارئ عند كل نقطة تفتيش كان السائق لا ينتظر أن يسأل بل يوقف المركبة و ينزل منها يمشي بهدوء نحو عربة الشرطة و يهمس، يعود، وينطلق… تكررت هذه الحكاية مرارا كأنها رقصة حفظها الزمن فالفضول أكلني فسألته إن كان غير مرخص أو يحمل مخالفة فأجابني ضاحكا “كل شيء تمام… لكن دي لغة شارع م بتعرفها” صدمت هل بلغ بنا الانهيار أن نصنع “لغة موازية” تدار بها مؤسسات الدولة؟ هل صار الفساد لغة يتقنها البعض ويستثنى منها من لم يتعلمها؟ ففي كل مشهد كنت أرى القانون يطوى ويخبأ ليظهر بدله “عرف الشارع” وهو عرف لا يعترف بالحق إن لم يدفع له المقابل……

🔹احبتي عند اخر نقطة كان الشرطي أكثر وضوحا لم ينتظر أن يعرض عليه شيء قالها ببساطة كأنها كلمة مرور “البتاعات” لا “رخصك” لا “أوراقك” فقط “البتاعات” كنت شاهدا على لحظة انهيار القانون في همسة رأيت السائق يخرج ورقتين من فئة الألفين يطويهما جيدا ويقدمها في صمت لرجل المرور ثم ينطلق سألته بعدها “ما دام ورقك سليم دفعت ليه؟”
رد ببساطة أقسى من الرصاصة “يا زول لو ما دفعتها بعرقلوك حتى لو جاهز دي البتاعات… زيها زي تأمين الطريق”
هنا عرفت أن الفساد لم يعد خللا عارضا بل صار جزءا من البنية التحتية……

🔹”البتاعات” ليست رشوة كما كنا نعرفها إنها فلسفة و نظام حياة و مفهوم جديد يدار به التعامل مع الدولة حيث لا يطلب منك فقط أن تكون ملتزما بل أن تدفع ضريبة “الاحتيال” حتى لا تتهم وإنها تشبه “الجزية” التي تدفع للحماية ولكن هذه المرة من الدولة نفسها
فنحن أمام دولة فقدت أجهزتها أبجديات الضمير وصارت قوانينها مجرد أوراق توضع في الأدراج بينما “البتاعات” هي القانون المطبق فعليا والمؤلم أن المواطن البسيط صار يتعايش مع هذا الواقع يخطط له ويقتطع من قوت يومه ليؤمن “البتاعات” على الطريق وفي السوق و في المكاتب وحتى في المستشفيات……

🔹احبتي الكرام أعلم أن البعض قد يقول
“مضطرين… ما في طريقة تانية” لكن اعلم أنك في كل مرة تدفع “البتاعات” فأنت تساهم في ترسيخ نظام يأكلك أنت أولا فالصمت على الفساد هو أول أبواب المشاركة فيه والخضوع له طوعا هو القبول بانقراض العدالة…..

🔹كما ارسل رسالة إلى المسؤول هل تعي أن هذه “البتاعات” التي تدفع في الخفاء هي مؤشر سقوط و ليست فقط في مؤسستك بل في شرعية وجودك؟ إذا كنت تعلم وتتجاهل فأنت شريك وإن كنت لا تعلم فهذه مصيبة أكبر فالشعب الذي ينحني ليس دائما راضيا ولكنه مرهق فهل تتركه ليعيش مراراته وحده؟ أم تتحرك قبل أن تصير الدولة كلها مجرد “نقطة تفتيش” لا يمر بها إلا عبر “البتاعات”؟….

🔹ختاما ما رأيته بالأمس لم يكن مشهدا عابرا من يومي بل هو مرآة صادقة لوطن في غرفة الإنعاش فالبتاعات ليست مجرد مال بل هي سقوط أخلاقي وتجريف بطيء لما تبقى من الوطن فنحن أمام خطر داخلي يلتهم القيم باسم “المرونة” ويهدم مؤسسات الدولة باسم “التسهيل”
وإذا لم نستيقظ جميعا مواطنين ومسؤولين ونتخذ موقفا واضحا ضد هذا الانهيار…فإن التاريخ لن يرحمنا لأنه لا يرحم من خانوا أوطانهم وهم يبتسمون……

🔹الي ان نلتقي……

٦ أبريل ٢٠٢٥م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى